رمضان في مصر
في مصر، رمضان له مذاق مختلف، ربما يكسبه هذا المذاق العادات الأصيلة التي تبادلها أهل مصر وشبوا عليها منذ مئات السنين، وتلاحم الناس وانصهارهم، وكأنهم أسرة واحدة كبيرة، هي التي تكسبه هذه الأجواء الحميمية، وهذه النكهة التي تكاد تشم رائحتها، فبمجرد أن تأتي البشارة، ويظهر الهلال في كبد سماء مصر، تتحول الشوارع إلى احتفالية كبيرة، ومائدة متسعة من الحب والتآخي والتراحم، وتَزدحم بتجار الياميش، والفوانيس، وصانعي الحلوى من الكنافة والقطائف، ففي كل طريق وعلى كل جانب، لا بد أن تقع عيناك عليهم وعلى تشابُك زينة رمضان، التي يعد لها الشباب الصغير قبل قدوم شهر رمضان بأسابيع، فتجدهم يطرقون كل الأبواب؛ لتسمح لهم الأُسر بتعليق زينتهم، فتمتد بطول الشوارع، يتوسَّطهم (فانوس) كبير صنعوه على مهلٍ متشاركين، وتنتشر هذه الظاهرة خاصة في الأماكن الشعبية؛ لتزرع الفرحة في القلوب، والطابع الخاص بشهر ينتظره الجميع، ويترقبه بشغف الصغير والكبير؛ لاستعادة الذكريات الجميلة، والأجواء الدافئة المليئة بالرحمة والإيثار والتآخي.
وفي مصر من المستحيل أن تجد في هذا الشهر الكريم فقيرًا جائعًا، فموائد الرحمن التي يُقِيمها الأغنياء تنتشر في كل مكان، ولا تترك مدينة أو قرية أو حارة، ويجلس عليها الفقير والمسافر والذي لم تُسعفه العودة إلى البيت، فيجد عليها الطعام والصحبة والأهل.
وأبرز ما يُعرف به رمضان هذا الشهر الكريم في مصر، هو: السهر حتى ساعات الفجر الأولى، فتمتد السهرات والجلسات بين الأصدقاء والمعارف، وتبادل الزيارات، فتجد الليل موصولاً بالصباح حتى يؤذن الفجر، وتجد المساجد عامرة بالمصلين والروحانيات عالية، وكلٌّ يسابق لختْم القرآن الكريم.
ومن أشهر المساجد التي تزدان بالأنوار في هذا الشهر الفضيل: مسجد الحسين - رضى الله عنه -، فيكون أول المساجد التي تتلألأ مآذنه بالأضواء، وتعِجُّ ساحاته بالزائرين والمصلين، كذلك (قهوة) الفيشاوي الشهيرة بالحسين؛ حيث تحلو السهرات، ويرتادها الكثير من السائحين من كل صوب يستمتعون بالأجواء الخلاَّبة وطيبة المصريين ووُدِّهم، كذلك تتلألأ أنوار مسجد الأزهر الشريف.
أما مسجد عمرو بن العاص، فيكون كامل العدد كل يوم في صلاة التراويح، حتى تأتي ليلة القدر، فيَصل الزحام مداه، فتغلق الشوارع حوله، ويمتد المصلون؛ ليملؤوا كل الساحات والشوارع المحيطة، وتُرفع حالات الطوارئ؛ حيث يأتي المصلون من كل أرجاء مصر منذ الصباح الباكر ومعهم فطورهم لحجز أماكنهم، وحين تأتي صلاة التراويح يصدح صوت الإمام الجليل الشيخ "محمد جبريل" بصوته الملائكي، ويملأ الأجواء والأرواح، ويوصلنا بالسماء.
أما (المسحراتي) - والذي كان أهم ما يميز ليل رمضان - ففي سنوات سابقة كان يطوف الحارات والشوارع يطرق على طبلته؛ ليُوقظ الناس، مناديًا كل شخص باسمه: "اصحَى يا نايم، اصحَى يابو محمد، اصحَى يابو إسماعيل، اصحى وصحي النايم"، فيستيقظ من كان نائمًا، وينزل الأطفال بفرحةٍ يحملون فوانيسهم التي أشعلوها بأنوار شموعهم -قبل أن يحل الفانوس الصيني محل فوانيسهم الآن - ويطوفون الشوارع القريبة وراءه مُردِّدين ما يقول بسعادة بالغة: "اصحى يا نايم، وحِّد الدايم، رمضان كريم".
ولكن ربما لم يعد المسحراتي يشق الليل بصوته الآن، إلا في بعض الحارات القديمة.
وعن أهم الأطباق على مائدة رمضان، فهي شهية ومتعددة، أهمها:
طبق الفول التي تحرص عليه كل أسرة - وخاصة في السحور - والزبادي، والكنافة، والقطائف ألذ وأشهر ما تقدِّمه الأسر في رمضان، وتتبارى الأمهات في وضع بصمتها وإبداعاتها على هذه الأطباق التي تطوف البيوت، كلٌّ يُهدِي مما صنع في مشهد يدل على الحب والتآخي والود الجميل، الذي تمتاز به مصر في هذه الأيام الفضيلة.
وبانطلاق مدفع الإفطار الذي يرجع تاريخه إلى عهد محمد علي، والذي ما زال السمة الأساسية التي تميز الإفطار؛ حيث يلتف حوله الصغار، وما أن ينطلق، فينطلقوا هم إلى بيوتهم فرحين به وبإفطارهم.